إن يوم الجمعة يوم عظيم قدره , جليل شأنه , خصه الله عز وجل بالمزايا والفوائد , جعله عيداً للمسلمين , لكن المسلمين اليوم لا يشعرون بعظمة هذا اليوم فلم يعد أكثرهم يوفي هذا اليوم حقه بل إنه غدا يوماً كباقي الأيام بل ربما أقل عبادة من باقي الأيام فالبعض من المسلمين اليوم جعل من هذا اليوم موسماً لطول النوم ولكثرة اللهو , لكن قلة من عباد الله ـ اللهم اجعلنا من هؤلاء القلة ـ هم الذين فهوا هذا اليوم فجعلوه يوم قربة إلى الله عز وجل .
أعرني قلبك وأذنك
الله عز وجل في كتابه الكريم يقول مخاطباً عباده " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً " ؟ هل يظن عاقل أن الله عز وجل خلقه من غير فائدة هكذا من غير غاية ؟ لا يوجد عاقل يرى أن الله خلق الخلق من غير فائدة وإلا فالأمر عبث وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً , إذاً خلقهم لغاية وإن لم يفهموا هذه الغاية .
آية أخر جاءت لتبين المراد من الخلق " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " إذاً اكتلمت الصورة " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً " ؟ لا لم نخلقكم عبثاً , لماذا خلقتنا يا رب ؟ جاء الجواب : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " .
لماذا نوَّع الله عز وجل في العبادات ؟ لم يجعل الله العبادات من نوع واحد أو في زمن واحد لا وإنما نوع فأنت ترى أن بعض العبادات بدنية محضة كالصوم والصلاة , وهناك عبادات مالية محضة كالزكاة فهي عبادة مالية يؤديها المسلم من ماله ولا علاقة لبدنه فيها , وهناك عبادات مزج الله عز وجل فيها بين المال والبدن كالحج فهو عبادة مشتركة مالية بدنية فالمسلم يدفع المال ليصل هناك ويدفع المال ثمن الهدي وأيضاً يطوف ويسعى ويرمي , إذاً عبادات مالية , وعبادات بدنية , وعبادات مالية بدنية .
قبل أن نتابع حديثنا هناك سؤال هام قد يتبادر إلى الأذهان وهو : لماذا أمرنا الله عز وجل بالعبادة ؟ هل لحاجته إليها مثلاً ؟؟ حاشا وكلا , بل من المستحيل عقلاً أن يكون الخالق محتاجاً إلى من خلق , وإلا فإن احتاج فلا يسمى خالقاً بل هو مخلوق مثل المحتاج .
الله عز وجل لم يأمرنا بالعبادات لأنه محتاج إليها بل لأننا محتاجون إليها .
ثم إن لكل عبادة فائدة ونوراً ووظيفةً سنتعرف عليها إجمالاً
إذاً ما خلقنا عبثاً , بل لعبادته , ولما خلقنا لعبادته نوع لنا في العبادات لأن لكل عبادة عملاً تقوم به وأثراً ينصبغ به فاعلها .
إليك مثالاً سريعاً قال تعالى : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " هذه إحدى فوائد الصلاة وهي نهيها عن الفحشاء والمنكر , وقال تعالى : " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " لاحظ أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وأن الصيام يورث التقوى إذاً لكل عبادة سراً وأثراً ونوراً .
بعد هذه المقدمة الطويلة أقول : ما فائدة صلاة الجمعة ؟ لماذا شرع الله عز وجل صلاة الجمعة ؟ قبل أن أجيب أقول إن سبب إعراضنا عن يوم الجمعة هو عدم شعورنا بأهميته , وعدم شعورنا بأن هذا اليوم قد يسعدنا الله به سعادة لا نشقى بعدها أبداً .
إن أحد الفوائد أن يجتمع المسلمون بأجسامهم وهذه خطوة أولى لكي يجتمعوا بعدها بأجسامهم وقلوبهم وأفكارهم وآمالهم وآلامهم .
إن هذه الوجوه الطيبة تخيف أعداء الله , إنهم يخافون منها , إنهم يخافون من الناس المنظمين الذي يكبِّرون معاً , يركعون معاً , يسجدون معاً , يقولون السلام عليكم معاً , لذلك شرع الله الجمعة , ولذلك شرع الله الجماعة لكي تكون خطوة لتجتمع القلوب .
يحكى أن رجلاً غير مسلم كان يشاهد الحرم على أحد شاشات التلفزة وبجواره صديق له مسلم , فقال المسلم لغير المسلم : لو أردنا أن نصفَّ أولئك المصلين بطريقة ما ,وقوفاً , جلوساً , بأي شكل , فكم نستغرق من الوقت ؟ فقال ثلاث ساعات , فقال له إذا كان هناك طابق آخر قال نحتاج ضعف الوقت , قال فإذا علمت أن الحرم مكون من أربع طوابق فكم نحتاج فقال نحتاج إلى ثنتي عشرة ساعة , قال فما تقول إذا كان أولئك الناس من جنسيات مختلفة ويتكلمون مئات اللغات ؟ فقال له ذلك الرجل : لا يمكن لأحد أن يصفهم , فقال له المسلم تابع المشهد , أذن المؤذن , وتقدم الإمام للصلاة فقال : استقيموا ثم كبر فكبروا معاً دفعة واحدة , فقال الرجل على الفور : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
من أسرار يوم الجمعة وفوائدها وما أكثر أسرارها التي غفل عنها الكثيرون ـ ولست في معرض توجيه الاتهام إلى أحد فقد يكون الخطباء هم من سبب الملل وجعل الخطبة أمراً روتينياً لا روح فيه , وقد يكون المصلون هم من جعل الخطباء يصابون بالملل , على كلٍ لو فهم كل من الخطيب والمصلين مراد الله من يوم الجمعة لكان حالنا أفضل وها نحن نحاول ـ إن من فوائدها أنها تجعل منك طالب علم والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم من باب التواضع رضاً بما يصنع , فإذا جئت إلى صلاة الجمعة فلتكن نيتك طلب العلم , لكي تحصل على ثواب طلب العلم , أنت تعلم أن نية المرء خير من عمله , إذاً أقبل وأنت منفتح العينين , منفتح الفكر , لا تأت وأنت نعس , لا تأت وأنت جائع , عندها سيكون تقبلك للكلام أقل , واستفادتك منه أدنى , انتبه إلى هذا الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَوَضأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَدَنَا وَأَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا " .
بداية الحديث مشجعة جداً وفيها رجاء كثير لكن في نهاية الحديث تحذير من مس الحصى , وأن من مس الحصى فقد لغا , ومعلوم أن من لغا فقد أضاع الثواب على نفسه , لماذا كل هذا التأكيد ؟ وما الإشكال لو أن إنسان مس الحصا أو حركه ؟ هل يمكن لنا أن نلغي له صلاته لمجرد أن مس الحصا ؟ فعلاً يجب على المسلم أن يستغرب .
الحصا كان موجوداً في المساجد التي بنيت في صدر الإسلام وهو اليوم غير موجود ويقوم مقامه السجاد فمن باب القياس على سبيل المثال من لعب بالسجاد فقد لغى , ومن لغى فلا جمعة له .
ولعل الأمر كما يلي هو أن الإسلام أراد من أبنائه أن يأتوا إلى المسجد وهم في أعلى درجات التقبل والاستعداد لكي تكون الفائدة أكبر قال تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " استمع بأذنك وأنصت بقلبك , أو استمع وزد في الاستماع لتحصل على أكبر فائدة من القرآن , كيف ترجو الفائدة وجوارحك مشغولة , وفكرك مشتت , وقلبك معلق بأمر آخر ؟ .
قد تسمع إلى خطبتي وأنت تداعب أطراف السجادة أو تخزن رقماً أو معلومة في جهازك الجوال , لكن تأكد أنك لن تحصل على الفائدة كاملة إلا إن كان عقلك وقلبك وفكرك وكل جوارحك معي .
ولما كان لخطبة الجمعة الأثر الكبير والفائدة العظيمة كان التشديد على تاركها كبيراً قال صلى الله عليه وسلم : " فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها و جحوداً بها فلا جمع الله له شمله , ولا بارك له في أمره , ألا ولا صلاة له , ولا زكاة له , ولا حج له , ولا صوم له , ولا بر له حتى يتوب " . الحديث كما في سنن ابن ماجه .
هيا بنا لنعيد لهذا اليوم بهاءه وصفاءه وبريقه
.
أسأل الله عز وحل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والحمد لله رب العالمين .
أقول هذا وأستغفر الله ..